كيف تتنافس الدول؟

ينقسم العالم إلى قسمين: دول نامية تستغل مزاياها التنافسية في إنتاج السلع الأولية المتوفرة في أراضيها، مثل النفط والغاز والأخشاب والقمح والأرز والشاي، والتي تعتمد على تفوقها المطلق في تكاليف استخراجها لتصبح قادرةً على منافسة أسعار السلع الأولية المماثلة في الدول الأخرى. ودول متقدمة تستغل مزاياها النسبية المتوفرة في عقول أجيالها، مثل التقنية والمعرفة والكفاءة الإنتاجية، وتشتري السلع الأولية من الدول النامية، ثم تقوم بتصنيع المنتجات بأقل التكاليف وأفضل المواصفات لتنافس غيرها من الدول في الأسواق العالمية.
سويسرا التي لا تنتج جراماً واحداً من نبات الكاكاو الذي يشكل نسبة 30% إلى 70% من مكونات الشوكلاتة، استخدمت تقنيتها ومعرفتها وكفاءة مصانعها في إنتاج وتصدير أفضل أنواع الشوكولاتة في العالم. وبريطانيا التي لا تنتج كيلوجراماً واحداً من نبات الشاي، أصبحت من خلال مزاياها النسبية الصناعية والتقنية تمتلك 63% من حصة تسويق الشاي في العالم، وأصبح مشروب الملايين يعرف باسم الشاي الإنجليزي. بينما سيريلانكا والهند والصين التي تنتج 84% من محصول الشاي العالمي بأرخص الأسعار أخفقت في استغلال هذه المزايا التنافسية وفقدت حصتها من محصول الشاي في الأسواق العالمية.
مصر وباكستان وأفريقيا التي تنتج 71% من محاصيل القطن في العالم فقدت أيضاً مزاياها التنافسية المعتمدة على أفضل الأصناف وأرخص الأسعار أمام المزايا النسبية الأمريكية والأوروبية المشهورة بقدراتها التقنية وكفاءتها الإنتاجية. اليوم تمتلك أمريكا وأوروبا 68% من حصة الملابس القطنية في الأسواق العالمية بينما لا تزيد حصة مصر وباكستان عن 3% من السوق العالمي.
المزايا التنافسية المتوفرة في الدول الخليجية مثل النفط والغاز بأسعارها المنخفضة ووفرتها لا تكفي لتحقيق مكانة اقتصادية مرموقة في الأسواق العالمية. وقد تصبح هذه المزايا التنافسية دون جدوى اقتصادية مربحة مثل الكاكاو البرازيلي والقطن المصري والشاي الهندي، إذا لم تبدأ الدول الخليجية بتوفير المزايا النسبية لأجيالها وتشجيع تدفق الاستثمار الأجنبي في بناء مصانعها وتوطين التقنية في معاهدها وفتح الأسواق العالمية أمام صادراتها كما فعلت اليابان وكوريا وتايوان.
في العقد الماضي استغلت الدول الصناعية الناشئة نظرية التجارة المتكاملة، بحيث أضافت لمزاياها التنافسية عناصر المزايا النسبية. ونجحت هذه الدول في تحقيق الدخل الوطني الصافي لاقتصادياتها، وتقليص الآثار السلبية للمنافسة العالمية على صادراتها.
كانت اليابان التي تعتمد في تصنيع منتجاتها على 86% من المواد الأولية المستوردة، أول من أبدع في استغلال المزايا النسبية. اعتمدت اليابان على نظرية التفاضل التقني، التي تنادي بأنه في حال تساوي الأسعار العالمية لمنتجات معينة في أسواق معينة، فإن تقنية المنتجات اليابانية تصبح الفاصل النهائي في المفاضلة بينها وبين المنتجات الأخرى. لذا كان تركيز اليابان على التقنية وتطويرها لغزو الأسواق العالمية، تفوقت المنتجات اليابانية على مثيلاتها الأوروبية والأمريكية، وأصبحت اليابان تتربع على المركز الرابع كأكبر اقتصاد في العالم والمركز الثالث كأكبر مصدّر في العالم.
وكانت كندا أول من أحسن استخدام مزاياها التنافسية جنباً إلى جنب مع مزاياها النسبية لتعظيم فوائد تصنيع السلع الأساسية مثل الألمنيوم والمغنيزيوم ومواد البناء ومنتجات الأخشاب. قامت كندا بتوفير هذه السلع الأولية بأسعار تجارية مخفّضة لصناعاتها التكميلية مما أدى إلى سهولة تصدير منتجاتها ومنافسة المنتجات الأمريكية والأوروبية في الأسواق العالمية.
أما الهند فكانت أولوياتها تصب في توفير الميزة النسبية لمنتجاتها من خلال رفع الكفاءة الانتاجية لصناعاتها وزيادة التحرير التدريجي لأسواقها وتطبيق مبدأ المنافسة العادلة بين منتجاتها ومثيلاتها الأجنبية. ولجأت الهند، على عكس ما تنتهجه الدول النامية، إلى تخفيض الرسوم الجمركية على وارداتها من السلع الأساسية وفتح أسواقها للاستثمار الأجنبي وإلغاء تحكّم الدولة في الأسعار. وضعت الهند في عام 2002م خطة تنموية صارمة تهدف إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام نسبته 5% في عام 2010م. إلا أن نجاح الخطط الهندية أدى في العام الماضي إلى تحقيق نمو اقتصادي يساوي 8%، وهذا دليل واضح على نجاح الهند في استخدام مزاياها النسبية.
أما كوريا الجنوبية فقد اختارت ثلاثة أهداف أساسية للوقوف في وجه المنافسة اليابانية العاتية وتوفير الميزة النسبية الكورية. كان الهدف الأول يرمي إلى توطين تقنية الصناعات الثقيلة التي تعتمد على الطاقة والمواد الأولية المستوردة، فأصبحت كوريا خلال عشر سنوات من أفضل منتجي الحديد والصلب في العالم وأنشأت أكبر الأحواض الجافة في جنوب وشرق آسيا لتصنيع وإصلاح السفن. وكان الهدف الثاني يرمي إلى تحقيق أفضل المستويات العالمية في خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات، فلجأت كوريا إلى ربط جميع مدنها وقراها بأكبر وأسرع شبكة للاتصالات الضوئية في العالم لتصبح ثالث أفضل دولة في تقديم الخدمات الإلكترونية. وكان الهدف الثالث يختص بإعادة هيكلة التعليم وتوجيه مخرجاته لتوطين العمالة الوطنية، فنجحت كوريا في إنشاء جيل من الخبراء والمهنيين والمصنعين لتصبح خامس أكبر مصّدر للمنتجات الصناعية الوطنية في الأسواق العالمية.
تنافس الدول لا يحتاج إلى اختراع عجلة جديدة، فالأمثلة على نجاح الدول في التنافس جاهزة ومتوفرة، ولكن معظمها يعتمد على المعرفة والفكر والتقنية.
فواز العلمي ـ كاتب سعودي* ص الوطن س