الخبز....والزبد....والأرقام!
ونتيجة لإصرار جاليليو وعناده ،رفض أساتذته إعطائه دبلومه في الطب .وهكذا غادر جامعة بيزا وهو فاشل في الطب فشلا ذريعا وقد قالوا عنه إنه مشعوذ مخبول العقل يتلاعب بالأرقام عديمة الفائدة) . ولكنه مهارته هذه في التلاعب بالأرقام أكسبته شهرة كبيرة بين الرياضيين الكبار في ايطاليا ،هؤلاء العلماء الذين كان جاليليو قد أرسل إليهم بعض نتائجه العلمية . والذين شرفوه بأن أطلقوا عليه لقب ارخميدس عصره .
ولكن ارخميدس عصره وجد استبدال الطب بالرياضيات إنما هو شيء بائس حقا من الناحية المادية . إذا في ذلك العصر كان يوجد الكثيرون من المرضى والقليلون من محبي العلم . وقرر جاليليو إعطاء دروس خصوصية لأبناء النبلاء . ولكن أين ذلك الإنسان الذي يقبل ، على الأقل في ذلك الوقت ، أن يأخذ أرقاما مجردة ويعطي في مقابلها خبز وزبد ؟ ولكن ما العمل ؟ ألم يئن للحظ أن يبتسم ؟ لقد خلا ، من حسن ظن جاليليو كرسي أستاذية الرياضيات بجامعة بيزا واستطاع جاليليو أن يحصل على ذلك المنصب أن يحصل على ذلك المنصب . كيف؟ لا لشئ إلا أنهم لم يجدوا أحد غيره يقبله ! لم ؟! لان راتب ذلك المنصب كان قليل جدا.
رب ضارة ...!
انهمك جاليليو في تجاربه بشكل أكثر من ذي قبل . وكان تلاميذه يصغون إلى محاضراته بابتسامات هازئة لم يحسنوا إخفاءها ويصب الأساتذة على رأسه اللعنات . ماذا يقصد ذلك المبتدئ السفيه بإزالته كتب أرسطو المقدسة من فوق رفوفها وبإحلاله تلك الأدوات السخيفة التي تدعو للسخرية محلها من خيوط ، وروافع ، وكتل ، ودوائر ،وزاويا ، وسطوح ...(يا للعجب!... إن هذه الأشياء تصلح لعبا للأطفال ولا تصلح أدوات للدراسة الجادة والوقورة ...جاليليو كف عن هذرك هذا وإلا لقناك درسا لن تنساه طوال حياتك ) . هكذا كان تهديد الأساتذة لجاليليو.
ورفض جاليليو التهديد فتحدوه ، وكانت الغلبة له حيث أثبت – خلافا لتعاليم (أرسطو) – إننا لو تركنا ثقلين مختلقين ليسقطا في لحظة واحدة الوقت نفسه .
(القصة سأدرجها لاحقا )
ورغم هذا أصر بعض الأساتذة على تخطيئه واستمروا في تدريس معتقدات أرسطو ونشرها على الرغم من الدليل التجريبي الذي قدمه جاليليو لهم ، واضطهدوه .
ولكن جاليليو ظل رابط الجأش في وجه هذا الاضطهاد واستمر في إلقاء دروسه الخارجة على التقاليد كما استمر في حياته الخارجة على التقاليد أيضا ، ما هذه القوانين التي تحتم أن يلبس الأساتذة أرديتهم الجامعية لا في حجرات الدراسة فحسب بل في الشارع أيضا ؟! هكذا كان يردد جاليليو ، فانشق عليها وعصاها . إن الرداء الجامعي يحد من حرية حركته ، وهو يريد الحرية لجسمه وعقله معا ، ومن ثم فقد اضطر مررا إلى دفع غرامة من مرتبه الهزيل لإصراره على الخروج على القانون . ولكن هل تصطبر إدارة الجامعة على هذا التأثر المتجرئ على تحدي ما هم به يعتقدون ؟ لقد ضاقت به ذرعا وعليها أن تجد علة ما لطرده من الجامعة .
ولم تأخر مجئ هذه العلة . إن الأمير جيوفاني كان قد اخترع آلة لتطهير مجاري المياه وأرسل نموذجا من هذه الآلة إلى جاليليو ليقوم بفحصه وكتابة تقري عنه . ولكن تقرير جاليليو – الذي ثبت صحته فيما بعد – لم يكن في صف الأمير . إذا قال إن الآلة على مهارة فائقة وعبقرية نادرة إلا أن بها عيبا واحدا فقط وهي أنها لا يمكن أن تعمل إطلاقا !. وثار جيوفاني لهذه الاهانة الموجهة لكرامته وطالب بفصل جاليليو من الجامعة بدعوى عدم كفاءته . وبالطبع كانت سلطات الجامعة على أتم الاستعداد لتنفيذ طلب الأمير . ويا للأسف فقد انضم الطلبة أيضا – تحت تأثير أساتذتهم من أتباع أرسطو – إلى المجموعة النابحة التي طاردت جاليليو وطردته من الجامعة.
أهكذا يكون جزاء عقل متفتح وعالم ثائر ؟! ولكن القدر لن يتخلى عنه ، ورب ضارة نافعة ، فلقد كان لجاليليو أصدقائه من علماء الرياضيات والطبيعة ، إذا فليقفوا إلى جانبه ، فليؤازروه طالما أنهم يتتبعون تجاربه الباهرة ويقدرونها حق قدرها . وكانوا فعلا الأصدقاء الأوفياء، فقد ساعدوه أن يحصل على منصب آخر أفضل في جامعة بادوا حيث ارتفع راتبه إلى ثلاث أضعاف راتبه السابق كما أتاح له المزيد من الحرية .
ولكن ازدياد حريته سره أكثر من ازدياد مرتبه . فقد كان يمكنه في بادوا أن يقول ما يشاء دون أن يقاطعه صفي أو استهزاء ، وعندما تقدم إلى المنصة ليلقي أولى محاضراته قوبل بتحية حارة وحماس بالغ . وهكذا وجد جاليليو نفسه قادرا على أن يتابع تجاربه بضمير مستريح وعقل حر .