أعضاء المنتدي الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذا المقال منشور بمجلة العلوم عدد ديسمبر 2000

الطاقة السالبة(*)
إن السفر بسرعة تفوق سرعة الضوء يستلزم وجود طاقة في صورة
غير عادية. ولسوء الحظ، يبدو أن قوانين الفيزياء نفسها، التي تسمح
بوجود هذه الطاقة «السالبة»، تعمل أيضا على الحد من سلوكها.
<H .L. فورد> ـ <A .Th. رومان>

تُرى، هل يمكن لمنطقة في الفضاء احتواء أقل من لا شيء؟ سيجيب الحس السليم بالنفي طبعا. إن أقصى ما يمكن للمرء عمله هو إزالة المادة والإشعاع والاكتفاء بالخواء. ولكن الفيزياء الكمومية أثبتت قدرتها على دحض الحدس، والحالة هنا مثال على هذه القدرة. وفي واقع الأمر يمكن لمنطقة ما من الفضاء احتواء أقل من لا شيء، أي أن تكون كثافة الطاقة فيها ـ وهي الطاقة في وحدة الحجم ـ أقل من الصفر.

ولا يلزمنا التأكيد أن ذلك يتضمن أمورا غريبة جدا. فحسب نظرية آينشتاين في التثاقل، يلوي وجود المادة والطاقة البنية الهندسية للزمكان(1). والتثاقل الذي نحس به هو التشويه في الزمكان الذي تنتجه الطاقة الموجبة أو المادة الموجبة العاديتان. أما عندما ينحني الزمكان نتيجة وجود طاقة سالبة أو كتلة سالبة ـ ما يسمى بالمادة الغريبة(2) ـ فإن جملة من الظواهر المدهشة تدخل في عداد الممكنات: مسالك دودية يمكن عبورها تستطيع أن تؤدي دور أنفاق نحو أجزاء من الكون بعيدة عنا، وتسيير بسرعة تفوق سرعة الضوء وذلك بتشويه الزمكان، وآلات زمنية قد تتيح السفر في الماضي. بل قد يكون من الممكن استخدام الطاقة السالبة لصنع آلات دائمة الحركة أو لتحطيم الثقوب السوداء. ولا يمكن لحلقة من مسلسل الرحلات النجمية(3) أن توفر أكثر من ذلك.


لو كان وجود مسلك دودي ممكنا لبدا لنا كفتحة كروية تُقرِّب لنا جزءا بعيدا من الكون. يتيح المسلك الدودي لسكان نيويورك، في هذه الصورة الخادعة لميدان تايمز سكوير، الانتقال إلى الصحراء بخطوة واحدة بدلا من قضاء ساعات في الطائرة إلى تامانراسيت. ومع أن هذا المسلك لا يخالف أيا من قوانين الفيزياء فإنه يتطلب إنتاج كميات غير معقولة من الطاقة السالبة.

إن هذه التشعبات تدق ناقوس الخطر للفيزيائيين. لقد سبرت قصص الخيال العلمي، لزمن طويل، المفارقات الكامنة في السفر عبر الماضي ـ كأن تقتل جدك قبل أن تحمل جدتك بأبيك. كما لا تخلو النتائج الأخرى المترتبة على المادة الغريبة من المشكلات. فهي تثير مسألة في غاية الأهمية: هل تضع القوانين الفيزيائية التي تقبل وجود الطاقة السالبة حدودا ما لسلوكها؟ لقد اكتشفنا، نحن وآخرون، أن الطبيعة تفرض قيودا على قيمة ومدة تواجد الطاقة السالبة التي يبدو أنها (مع الأسف، كما قد يقول البعض) تجعل نشوء المسالك الدودية والتسيير بسرعة تفوق سرعة الضوء أشبه بالمستحيل.

السالب المزدوج
نود هنا توجيه انتباه القارئ إلى ما لا تتصف به الطاقة السالبة. فيجب ألا نخلط بينها وبين المادة المضادة ذات الطاقة الموجبة. عندما يرتطم الإلكترون مع جسيمه المضاد، البوزيترون، يفنيان معا منتجيْن إشعاعات گاما ذات طاقة موجبة. فلو كانت الجسيمات المضادة مكونة من طاقة سالبة لأصبحت الطاقة النهائية مساوية الصفر في مثل هذا التفاعل. يجب كذلك عدم الخلط بين الطاقة السالبة والطاقة المرتبطة بالثابت الكوسمولوجي التي تدخل في نماذج تضخم الكون [انظر: «اللاتثاقل الكوسمولوجي»، مجلة العلوم العدد 11(1999)، ص 58]. إن مثل هذا الثابت يمثل ضغطا سالبا وإنما بطاقة موجبة. (يُسمي بعض المؤلفين ذلك المادة الغريبة، ولكننا نقصر هذه التسمية على كثافات الطاقة السالبة.)


عادة ما تكون كثافة طاقة الموجات الضوئية في مختلف نقاط الفضاء موجبة أو تساوي الصفر (في الأعلى). أما فيما يسمى بالحالة المعتصرة، فيمكن لكثافة الطاقة أن تصبح سالبة في لحظة معينة في بعض الأمكنة (في الأسفل) وللتعويض يجب أن ترتفع ذروة peak الكثافة الموجبة.

ليس مفهوم الطاقة السالبة مجرد خيال، فقد وصل الأمر إلى إنتاج بعض تأثيراته في المختبر. ومنشأ هذه التأثيرات هو مبدأ الريبة (عدم التحديد) لِهايزنبرگ القاضي بالتأرجح العشوائي لكثافة طاقة الحقلين الكهربائي والمغنطيسي وغيرهما من الحقول. وحتى إذا ساوت كثافة الطاقة الصفر وسطيا ـ كما هي الحال في الخواء ـ فهي تتأرجح. وبالتالي فإن الخواء الكمومي لا يبقى أبدا خاليا بالمعنى التقليدي، فهو بحر هائج من الجسيمات الافتراضية تظهر للوجود فجأة ثم تختفي [انظر: «استغلال طاقة النقطة صفر»، مجلة العلوم، العددان 6/7(1998)، ص 40]. في النظرية الكمومية، إن فكرة صفرية الطاقة تقابل فكرة الخواء مع كل تأرجحاته. وهكذا فإن وجدت وسيلة لإخماد التموجات فسيكون للخواء طاقة أقل من تلك التي يمتلكها عادة، أي أقل من طاقة الصفر.

وعلى سبيل المثال، استطاع باحثون في مجال الضوء الكمومي تكوين حالات خاصة لحقول تعمل التداخلات الكمومية المدمرة فيها على إخماد تأرجحات الخواء. وهكذا تتضمن تلك الحالات المسماة بالحالات المعتَصرة (المنكبسة) طاقة سالبة. وعلى وجه التحديد ترتبط هذه الحالات بمناطق تتناوب فيها الطاقتان الموجبة والسالبة؛ ويظل متوسط الطاقة الكلية في كل الفضاء موجبا. والطاقة السالبة التي تنشأ عن كبس الخواء في مكان ما، تقابلها طاقة موجبة إضافية في مكان آخر. وتتضمن إحدى التجارب النموذجية حزم ليزر تمر عبر مواد ضوئية لاخطية [انظر: «الضوء المعتصر»، مجلة العلوم، العدد 4(1988)، ص 74]. يحرض ضوء الليزر الشديد المادة على تكوين أزواج من الفوتونات (كمات الضوء). يرفع هذا الزوج من الفوتونات ويخفض تأرجحات الخواء بالتناوب مما يؤدي إلى وجود مناطق ذات طاقة موجبة وأخرى ذات طاقة سالبة على التوالي.

تدخل طريقة أخرى لإنتاج الطاقة السالبة حدودا هندسية في الفضاء. فقد بين الفيزيائي الهولندي <G .B .H. كازيمير > Casimir عام 1948 كيف أن وجود صفيحتين معدنيتين متوازيتين وغير مشحونتين يعدل تأرجحات الخواء مما يجعلهما تتجاذبان. وقد حُسبت كثافة الطاقة بين الصفيحتين فيما بعد وتبين أنها سالبة. وفي الواقع تنقص الصفيحتان من التأرجحات في الحيز الفاصل بينهما، وهذا يولد طاقة سالبة وضغطا مما يؤدي إلى جذب كل من الصفيحتين الواحدة نحو الأخرى. وكلما ضاق الحيز كان الضغط أكبر والطاقة أكثر سالبية وكانت القوة الجاذبة أكثر شدة. وقد قاس تأثير كازيمير مؤخرا كل من <K .S. لامورو> Lamoreaus [من المختبر القومي في لوس آلاموس] و<عمر محيي الدين> [من جامعة كاليفورنيا في ريفر سايد] مع زميله <A. روي> Roy. وعلى نحو مماثل تنبأ <W .C .P. ديڤيس> Davies و<A .S. فولينگ> Fulling عام 1970 [عندما كانا في گينك كوليج بجامعة لندن] بإمكانية إنتاج دفقٍ من الطاقة السالبة بوساطة حدود boundary متحركة، كمرآة متحركة مثلا.

لم يقس الباحثون سواء في تأثير كازيمير أو في الحالات المعتصرة إلا الآثار غير المباشرة للطاقة السالبة. والكشف المباشر أكثر صعوبة، ولكنه قد يكون ممكنا باستخدام السپينات الذرية atomic spins، كما اقترح ذلك <G .B. گروڤ> Grove و<C .A. أوتويل > Ottewill وأحد كاتبي هذه المقالة (فورد) عام 1992. كان <گروﭪ> يعمل حينذاك في وزارة الداخلية البريطانية و<أوتويل> في جامعة أكسفورد.

ثقالة وخفة
يَظهر مفهوم الطاقة السالبة في مجالات متعددة من الفيزياء الحديثة ويرتبط ارتباطا وثيقا بالثقوب السوداء المكتنفة بالأسرار، فحقل تثاقلها من الشدة بحيث ما من شيء يستطيع الانفلات من داخلها عبر حدودها المسماة أفق الحدث the event horison. وقد جاء تنبؤ <W .S. هوكينگ> Hawking الشهير القائل بتبخر الثقوب السوداء نتيجة إصدارها للإشعاع عام 1974(4) [يعمل هوكينگ في جامعة كامبردج]. تتناسب الطاقة التي يشعها الثقب الأسود عكسا مع مربع كتلته. ومع أن معدل التبخر غير كبير ـ إلا فيما يتعلق بالثقوب السوداء التي لا تتجاوز أبعادها أبعاد الذرة ـ فإنه يزودنا بصلة أساسية بين قوانين الثقوب السوداء وقوانين الديناميك الحراري: يسمح إشعاع هوكينگ للثقوب السوداء بالوصول إلى التوازن الحراري مع البيئة المجاورة لها.


يقوم المسلك الدودي بدور نفق يصل بين موقعين متباعدين في الفضاء. ويمكن للأشعة الضوئية الصادرة عن A لتصل إلى B أن تدخل فوهة المسلك الدودي لتخرج من الفوهة الثانية عبر حلقه. وفي هذا الحلق يجب أن توجد طاقة سالبة (باللون الأزرق) يسمح حقلها التثاقلي للأشعة الضوئية المتقاربة للبدء بالتباعد (هذا المخطط تمثيل ببعدين لفضاء ذي ثلاثة أبعاد. فوهتا المسلك وحلقه هي في الواقع كرات). ومع أننا لا نظهر ذلك هنا، فإن بإمكان المسلك الدودي الوصل بين نقطتين مختلفتين في الزمن.

للوهلة الأولى، يبدو أن التبخر يؤدي إلى تناقض. فالأفق طريق وحيد الاتجاه؛ لا تتدفق الطاقة عبره إلا نحو الداخل. كيف يمكن إذًا للثقب الأسود بث الطاقة نحو الخارج؟ والجواب هو أن مبدأ حفظ الطاقة يتطلب أن يصاحب إنتاج الطاقة الموجبة ـ التي يراها المراقبون من مسافات بعيدة على شكل إشعاع هوكينگ ـ فيض من الطاقة السالبة يدخل الثقب. يُنْتج الطاقة السالبة هنا الانحناء الشديد للزمكان في جوار الثقب، الذي يؤدي إلى اضطراب تأرجحات الخواء. وهكذا نرى أن الطاقة السالبة أمر منطقي يقتضيه توحيد فيزياء الثقب الأسود مع الديناميك الحراري.

والثقب الأسود ليس المنطقة المنحنية الوحيدة في الزمكان التي يبدو أن الطاقة السالبة تؤدي دورا فيها. فهناك أيضا المسلك الدودي، وهو نوع مفترض من الأنفاق يصل بين منطقتين في الزمكان. وقد كان الرأي السائد لدى الفيزيائيين أنه لا وجود للمسالك الدودية إلا بمقاييس الطول الدقيقة جدا وأنها تُزبد وتختفي من الوجود كما تفعل الجسيمات الافتراضية [انظر: «الجاذبية الكمومية»، مجلة العلوم ،3 (1987) ، ص 103]. وقد بين الفيزيائيان <R. فوللر> Fuller و<A .J. ويلر> Wheeler في أوائل الستينات أن المسالك الدودية الكبيرة سوف تنهار تحت تأثير تثاقلها الذاتي بسرعة كبيرة إلى حد أنها لا تترك الوقت الكافي لاجتيازها من قبل حزمة ضوئية.

إلا أن باحثين عديدين وجدوا غير ذلك في أواخر الثمانينات. ومنهم بشكل خاص <S .M. موريس> Morris و<S .K. ثورن> Thorne [من معهد كاليفورنيا للتقانة] و<M. ڤيسر> Visser [من جامعة واشنطن]. وفي الواقع، يمكن لبعض المسالك الدودية أن تتسع لشخص بل ولمركبة فضائية. وهكذا قد يمكن دخول شخص من فوهة المسلك الموجودة على سطح الأرض مثلا، والسير مسافة قصيرة والخروج من الفوهة الثانية في مجرة المرأة المسلسلة(5) مثلا. إن ما أوقع الفيزيائيين الآخرين في الخطأ هو أن المسالك الدودية التي يمكن عبورها تتطلب طاقة سالبة. ولما كانت الطاقة السالبة ذات تثاقل طارد فإنها ستمنع المسلك الدودي من الانهيار.


إن فقاعة الزمكان هي أكثر ما يقرب الفيزياء الحديثة من التسيير بسرعة تفوق سرعة الضوء في الخيال العلمي. ويمكن لهذه الفقاعة أن تنقل سفينة نجمية بسرعات عالية اختيارية. يتقلص الزمكان أمام الفقاعة مختصرا المسافة إلى المكان المقصود ويتمدد خلفها مما يزيد من المسافة التي تفصلها عن نقطة الانطلاق (الأسهم). وتبقى السفينة ساكنة بالنسبة إلى الفضاء المحيط بها مباشرة ولا يشعر الملاحون بأي تسارع. والطاقة السالبة مطلوبة على أطراف الفقاعة (الأزرق).

لكي يمكن عبور مسلك دودي، يجب أن يسمح، كحد أدنى، للإشارات المنطلقة على صورة أشعة ضوئية باجتيازه. والأشعة الضوئية الداخلة إلى فوهة المسلك متقاربة (متبوئرة)(6)، ويجب أن تتحول إلى أشعة متباعدة للخروج من الفوهة الأخرى. وبعبارة أخرى يجب أن يتحول التقارب إلى تباعد في مكانٍ ما بين الفوهتين [انظر الشكل في الصفحة المقابلة]. وهذه العملية تتطلب طاقة سالبة؛ ففي حين يؤدي انحناء الزمكان الناتج من حقل التجاذب التثاقلي دور العدسة المقربة تؤدي الطاقة السالبة دور العدسة المفرقة.