كثيرون هم خريجو الكليات العلمية والهندسية في العالم العربي، وكثيرون هم المشتغلون في التعليم المدرسي والجامعي من حملة الشهادات العلمية الذين يدرسون أبناء الأمة العربية. وكثيرون هم أيضا أبناء الأمة العربية الذين يعيشون ويعملون، يتعلمون ويعلمون العلوم والتكنولوجيا في أرجاء المعمورة كلها. لكن نظرة بسيطة إلى أحوال هؤلاء وأحوال أولئك، تأتيك بالكثير من الملاحظات التي تستحق التوقف عندها.
فمن حيث جدية العمل العلمي، نرى الكثير من الأبحاث التي تتم في الوطن العربي على نوعين: الأول هو البحوث الاستعراضية التي تتم في مجالات قتلت بحثا وتركها الباحثون منذ أمد بعيد، والهدف هنا هو الترقية في الرتبة الجامعية، أو إعطاء صورة عن المؤسسة ( أو حتى عن الباحث نفسه) بأن لديها إنتاجا غزيرا من الأوراق البحثية. أما النوع الثاني فهو الذي يتم بالتعاون والدعم المقدم من جهات أكاديمية خارجية ( أو حتى عربية) وتتم في مجالات متقدمة بدرجة كبيرة تجعل من المستبعد الاستفادة منها أو تطبيقها في الوطن العربي لضعف الإمكانات وعدم وجود البنية التحتية التكنولوجية القادرة على توظيف نتائج هذه الأبحاث في خدمة الأمة.

والمحصلة هي طاقات وكفاءات تعمل في بلادنا وعلى حساب مواردنا بل وبأيدينا لحساب من يقطف هذه الثمار في الغرب والشرق مزيدا من التقدم ومزيدا من القوة التي تترجم نسبيا إلى مزيد من الضعف والتخلف لأمتنا.
وقد يعترض معترض بأن هذا العمل إنما ينعكس على علمائنا إيجابيا حيث يبنون الخبرة والكفاءة والمعرفة التي تكفل لنا الارتقاء بالمستوى العلمي والتكنولوجي في الوطن العربي.
وهنا لا يسرني أن أشير إلى أعداد ونوعيات وكفاءات العلماء والتكنولوجيين الذين يهاجرون من الوطن العربي لأسباب مختلفة لعل الحاجة المادية لا تكون أبرزها. وهؤلاء إنما يهاجرون حاملين معهم الخبرة والكفاءة والمعرفة التي بنوها على مدى سنوات وسنوات. لينضموا إلى الألوف المؤلفة من أفذاذ العلماء العرب الذين انصهروا تماما في المنظومة العلمية التكنولوجية الغربية ولم يعودوا يعيرون التفاتا إلى ما ألت إليه أحوال البحث العلمي في وطنهم (السابق).
وربما يتساءل أخر: فهل هذه دعوة لنبذ البحث العلمي والتوقف عن إعداد العلماء والكفاءات؟؟
والجواب طبعا هو كلا، بل علينا المضي في دعم البحث العلمي بأضعاف ما نقوم به حاليا، لكن ذلك ينبغي أن يتم ضمن برنامج شامل لإصلاح بنية وهياكل البحث العلمي.
وإن كان لي أن أستعرض بعض ملامح هذا البرنامج الإصلاحي، فأشير إلى الجوانب التالية:
·
توجيه القائمين والمشرفين على البحوث جهودهم وتلامذتهم إلى تبني المشكلات التكنولوجية والحياتية القائمة في مختلف المجالات في العالم العربي.
· توعية أصحاب القرار في كل المستويات الصناعية والاقتصادية بل وحتي السياسية نحو الاستثمار في العلماء والمهندسين من أبناء الأمة وعدم اللجوء أليا إلى البديل الجاهز والمكلف وهو الخبير الأجنبي (والذي يفضل الكثيرون منهم أن لا يكون حتى من أصول عربية!!!) .

· عقد البرامج والندوات التي ترشد العلماء والمهندسين العرب إلى طرق لتسويق أنفسهم في وطنهم وبطرق ووسائل مقنعة وعقد اجتماعات دورية بين ممثلي الأكاديميين وممثلي قطاعات الصناعة والاقتصاد لإيجاد لغة حوار مشتركة بين الجانبين تفضي إلى مزيد من التعاون.
· العمل على استبدال الثقافة السائدة بأن الأكاديميين لا مكان لهم إلا قاعة المحاضرات وأن الصناعة لا يصلح لها إلا ذوي الخبرة العملية المهنية مهما كان مستواهم العلمي متدنيا.
أخيرا لا بد لي من الإشارة إلى عبارة قالها لي أحد العلماء المخلصين من مهندسي هذه الأمة في معرض الحديث عن استقدام الخبراء الأجانب دون طائل لحل مشكلة بسيطة واجهت القائمين على إحدى الصناعات البتروكيميائية العربية: "إن الإخلاص الذي نعمل به في حل مشكلات الصناعة في وطننا هو الاستثمار الأكبر والأكثر عائدا من المشاريع الكبيرة التي لا تجد في كوادرها عربي واحد".

د. محمد عوض الله