فيزياء غريبة جدًا

إن هذه الأبعاد الإضافية ستسمح بشكل خاص بتفسير لماذا كثافة قوة الجاذبية أضعف بكثير من كثافة القوى الثلاث الأخرى. يقول مخائيل تاتس Michael Tuts من جامعة كولومبيا:
إن الحظوظ بأن يستطيع الـ LHC إثبات وجود هذه الأبعاد الإضافية هي حظوظ ضئيلة، ومع ذلك، فإن الاكتشافات التي سوف تتم من خلال هذا المصادم فائقة الأهمية من حيث كمونها، وكثيرة جدًا، بحيث تعطي للـ LHC طابعًا فائق الإثارة بالنسبة لنا نحن الفيزيائيين.
وكما بالنسبة للإبعاد الإضافية، فليس ثمة أي ضمان بأن يكشف الـ LHC عن ظواهر "غريبة". وهو أمر لا يمثل مشكلة بالنسبة لبعضهم، في حين أن اكتشاف جسيمات هيغز يمثل بذاته نجاحًا هائلاً. "إذا كان جسيم هيغز يمثل فعلاً ما يتوقعه النظريون الفيزيائيون، فإننا سوف نجده" كما يؤكد بيتر جني Peter Jenni، وهو فيزيائي تجريبي في المركز الأوروبي للبحث النووي. ويضيف: "ولن يكون لدينا عندها أي سبب لكي نشعر بخيبة الأمل". ذلك أن الفيزيائيين يتفقون على الأقل على أمر واحد: فبعيدًا عن الجدل الذي سيثار في حال الغياب الكلي لأي اكتشاف من الاكتشافات الهامة المتوقعة، فإن مثل هذا الوضع سوف يكون بذاته مصدرًا للمشاكل، وخاصة لدى الجهات الحكومية التي مولت الـ LHC. يقول جوناثان إليس:
تخيلوا أننا نقف أمام مجلس المركز الأوروبي للبحث النووي ونقول له: شكرًا جزيلاً. لقد أنفقنا مليارات اليورويات لنتوصل إلى أنه ليس ثمة ما نكتشفه في هذا الطيف من الطاقة. إن الإحباط سيكون كبيرًا...
من جهة أخرى، فإن اكتشاف الهيغز، إنما الهيغز وحده، سيعقد كثيرًا جهود الفيزيائيين الذين كانوا يحاولون إقناع حكوماتهم ببناء مصادم الجسيمات الكبير المستقبلي، وهو مشروع يسمى المصادم الخطي الدولي، أو ILC. سيكون هدف هذا المصادم الذي سيكلف نحو 6.5 مليار يورو تحديد مضمون الفيزياء الجديدة التي سوف يعلنها المصادم الحالي LHC. وتقضي الخطة بأن يقوم الـ ILC عبر مصادمة الإلكترونات بمضاداتها من البوزيترونات بإنتاج آثار تصادم أكثر "وضوحًا" قابلة كما يعتقد العلماء لأن تكشف خصائص الجسيمات الجديدة، وهي خصائص سوف تظل محجوبة نسبيًا من خلال مصادمات الـ LHC.
لكن أن يكون الهدف الوحيد من الـ ILC هو فقط دراسة خصائص الهيغز، فإنه سيكون مكلفًا جدًا وسيكون من الأصعب تسويقه لدى الممولين من الحكومات. من جهة أخرى فإننا ننسى عادة في خضم مناقشاتنا لما سوف تسفر عنه التجارب أننا لا نعرف كل شيء يمكن أن تسفر عنه حقًا. ويرى جوس أنجلان Jod Engelen المدير العلمي في المركز الأوروبي للبحث النووي "أن ما سوف نكتشفه سيكون متجاوزًا لكل آمالنا". ربما ما هو أكيد هو أن الجميع يأمل بألا تكون الهيغز آخر الأسئلة والكلمة الأخيرة في المعرفة الفيزيائية!

اختراع فيزياء جديدة

من جهة أخرى ثمة فيزيائيون يتخيلون منذ عدة عقود نظريات أخرى غير تلك المقترنة ببوزونات هيغز. وهم ينتظرون أيضًا تجارب الـ LHC ليضعوا حلولهم على محك التجربة. وفي هذا الإطار وجه السؤال التالي إلى كريستوف غروجين:
- إن الهدف المعلن من LHC هو اكتشاف بوزون هيغز. لكنكم تعملون على نماذج لا توجد فيها هذه الجسيمات. ألا تشعرون قليلاً أنكم معزولين عن المجتمع العلمي للفيزيائيين؟
فأجاب غروجين Christophe Grojean: على الإطلاق. صحيح أن أعمالي تتعلق بنماذج تتجاوز بوزون هيغز – هذا الجسيم "الإعلامي" الطابع منذ عدة سنوات، وخاصة منذ البدء بمشروع الـ LHC. لكن الهدف الأساسي من هذا المصادم الضخم ليس اكتشاف جسيمات هيغز بحصر المعنى. بل يتعلق الأمر بإثبات وجود وأنماط الرابط الذي يوحد اثنين من التفاعلات الأساسية للفيزياء: القوة الكهرمغنطيسية والقوة النووية الضعيفة. تبدو هاتان القوتان للوهلة الأولى مختلفتان جدًا عن بعضهما بعضًا. إن التفاعل الكهرمغنطيسي ذا المدى البعيد بل واللانهائي ينتقل بواسطة جسيمات كتلتها معدومة – هي الفوتونات. أما التفاعل الضعيف فهو ليس محسوسًا إلا على المستوى ما تحت الذري، والجسيمات الناقلة لهذه القوة، أي بوزونات W وZ فلها كتلة مرتفعة جدًا. مع ذلك يقول النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات أن لهاتين القوتين أصل مشترك.
ولكي يُفسِّر كيف انفصلت أو تمايزت القوتان خلال مرحلة بعيدة من تاريخ الكون قام بيتر هيغز Peter Higgs وفرانسوا إنغلرت François Englert وروبرت بروت Robert Brout في عام 1964 ببناء آلية سميت انكسار التناظر الكهرضعيف. ووفقًا لنظريتهم فإن بوزون هيغز، وهو جسيم أولي كبير الكتلة جدًا، ينقل أو يحول أقل كمية من الطاقة من القوة "الكهرضعيفة"، كاسرًا بذلك التناظر الأصلي. غير أن فرضيات أخرى تظل ممكنة لتفسير هذا الشرخ في التناظر، وهذا ما يفعله كريستوف غروجين للبرهان على ذلك مع عدد من النظريين الآخرين. ويقول:
أنا أشعر أنني أعمل على موضوع هو في قلب الاهتمامات الحالية للفيزياء. وأنا سعيد كون الـ LHC سوف يبدأ قريبًا بمراكمة المعطيات لإثبات أو نفي سلسلة من الفرضيات التي صيغت منذ نحو 40 سنة.
كيف نفسر أنه بغياب إثبات تجريبي فإن غالبية الفيزيائيين يعتقدون بوجود بوزونات هيغز؟ هناك أسباب عديدة وراء ذلك. فثمة مجموعة من المؤشرات غير المباشرة التي تم الحصول عليها من المسرعات الأخرى. وهي تدعم أو تظل على الأقل متوافقة مع وجود جسيمات هيغز. إضافة إلى ذلك لا تزال جسيمات هيغز حتى اليوم مع الآلية المرتبطة بها هي الفرضية الأكثر بساطة لتفسير كيفية حصول الشرخ في التناظر. و"البساطة" لها ميزات من مستوى إبستمولوجي، حتى وإن كان من المهم أن نشير هنا إلى أن الآلية التي نحن بصددها صيغت بطريقة مناسبة من أجل جعل انكسار التناظر ممكنًا. إن بوزونات هيغز تقدم تفسيرًا لكتلة البوزونين W وZ، ثم إلى كتلة جسيمات أولية أخرى. ولهذا فقد استرعت هذه النظرية اهتمام الفيزيائيين بسرعة، لأنهم في الماضي كانوا يواجهون دائمًا صعوبات غير قابلة للحل. مع ذلك فهي ليست نظرية كاملة تخلو من نقاط الضعف، وجسيمات الهيغز تطرح من الأسئلة بمقدار ما تحل منها وتجيب عليها.
مثال ذلك أن كافة الأجسام الكوانتية تتميز بخاصية جوهرية تسمى اللف الذاتي، حيث يأخذ هذا اللف قيمًا مختلفة كاملة أو نصف كاملة. ولطبيعته يجب أن يكون اللف الذاتي لبوزون هيغز معدومًا. غير أننا لا نعرف حتى الآن أي جسيم أولي يملك مثل هذه الميزة (رغم أنه ليس ثمة ما يمنع ذلك بالنسبة لجسيمات مركبة). إن مثل هذه النقاط النظرية الغريبة وغير المفسَّرة هي التي دفعت وتدفع اليوم أيضًا بعض الفيزيائيين لمحاولة التخلي عن بوزونات هيغز وطرح أفكار جديدة.
ونتابع ......