هل من الممكن أن يدخل الاجتهاد مجال أصول الفقه؟
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي اسم المفتي
على الرغم مما شاع لدى كثير من الدارسين أن أصول الفقه قطعية، وأن الأصول إذا لم تكن قطعية ودخلها الاجتهاد كغيرها، لم يعد لنا معيار نحتكم إليه إذا اختلفنا في الفروع!.
ومنذ سنوات ثارت هذه القضية على صفحات العدد الافتتاحي من مجلة (المسلم المعاصر) حيث تبنت المجلة الدعوة إلى اجتهاد معاصر قوي يعتمد على أصول الإسلام، ولا يغفل حاجات العصر، ولم تقصر دعوتها على الاجتهاد في الفقه، بل شملت الاجتهاد في أصوله.
واعترض بعض الباحثين المعاصرين على هذه الدعوى بأن أصول الفقه قطعية، فكيف نجتهد فيها؟.
وكان لي شرف المشاركة في تجلية هذه القضية في العدد التالي مجلة (المسلم المعاصر) مقالة (نظرات في العدد الأول) للمؤلف)، وكان مما قلته فيها: لا ريب أن الشاطبي - رحمه الله - بذل جهده لإثبات أن الأصول قطعية، ولكن ما المراد بالأصول هنا؟ يحسن بنا أن ننقل من تعليق العلامة الشيخ عبد الله دراز على (الموافقات) ما يوضح المقام حيث يقول:
تطلق الأصول على الكليات المنصوصة في الكتاب والسنة: مثل (لا ضرر ولا ضرار) الحديث، (ولا تزر وازرة وزر أخري) (سورة فاطر: 18)، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (سورة الحج: 78)، (إنما الأعمال بالنيات) الحديث. وهكذا. وهذه تسمى أدلة أيضًا كالكتاب والسنة والإجماع... إلخ وهي قطعية بلا نزاع.
وتطلق أيضًا على القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة، التي توزن بها الأدلة الجزئية عند استنباط الأحكام الشرعية منها، وهذه القوانين هي من الأصول. فمنها ما هو قطعي باتفاق، ومنها ما فيه النزاع بالظنية والقطعية.
فالقاضي: (أبو بكر الباقلاني) ومن وافقه على أن من هذه المسائل الأصولية ما هو ظني، والشاطبي قد عارض هذا بأدلة ذكرها، مقررًا في النهاية أن ما كان ظنيًا يطرح من علم الأصول، فيكون ذكره تبعيًا لا غير. (انظر الموافقات جـ، حاشية ص29 ط التجارية).
والذي يطالع علم أصول الفقه يتبين له أن رأي القاضي ومن وافقه هو الراجح، وذلك لما يرى من الخلاف المنتشر في كثير من مسائل الأصول. فهناك من الأدلة ما هو مختلف فيه بين مثبت بإطلاق، وناف بإطلاق، وقائل بالتفصيل. مثل اختلافهم في المصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصحاب وغيرها مما هو معلوم لكل دارس للأصول.
والقياس وهو من الأدلة الأربعة الأساسية لدى المذاهب المتبوعة، فيه نزاع وكلام طويل الذيول من الظاهرية وغيرهم.
حتى الإجماع لا يخلو من كلام حول إمكانه ووقوعه، والعلم به، وحجيته.
هذا إلى أن القواعد والقوانين التي وضعها أئمة هذا العلم، لضبط الفهم، والاستنباط من المصدرين الأساسيين القطعيين: (الكتاب والسنة)، لم تسلم من الخلاف وتعارض وجهات النظر، كما يتضح ذلك في مسائل العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والناسخ والمنسوخ... وغيرها. فضلاً عما تختص به السنة من خلاف حول ثبوت الآحاد منها، وشروط الاحتجاج بها، سواء كانت شروطًا في السند أم في المتن، وغير ذلك مما يتعلق بقبول الحديث، واختلاف المذاهب في ذلك أمر معلوم مشهور، نلمس أثره بوضوح في علم أصول الحديث كما نلمسه في علم أصول الفقه.
وإذا كان مثل هذا الخلاف واقعًا في أصول الفقه، فلا نستطيع أن نوافق الإمام الشاطبي على اعتبار كل مسائل الأصول قطعية. فالقطعي لا يسع مثل هذا الاختلاف ولا يحتمله، من ثم ألف العلامة الشوكاني كتابه الذي سماه (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول) محاولاً فيه تمحيص الخلاف، وتصحيح الصحيح، ونبذ الضعيف، وقال في مقدمته:
(إن علم أصول الفقه لما كان هو العلم الذي يأوي إليه الأعلام، والملجأ الذي يلجأ إليه عند تحرير المسائل، وتقرير الدلائل، في غالب الأحكام، وكانت مسائله المقررة، وقواعده المحررة تؤخذ مسلمة عند كثير من الناظرين، كما تراه في مباحث الباحثين، وتصانيف المصنفين، فإن أحدهم إذا استشهد بكلمة من كلام أهل الأصول، أذعن له المنازعون، وإن كانوا من الفحول، لاعتقادهم أن مسائل هذا الفن قواعد مؤسسة على الحق الحقيق بالقبول، مربوطة بأدلة علمية (أي يقينية) من المعقول والمنقول، تقصر عن القدح في شيء منها أيدي الفحول، وإن تبالغت في الطول وبهذه الوسيلة صار كثير من أهل العلم واقعًا في الرأي رافعًا له أعظم راية، وهو يظن أنه لم يعمل بغير علم الرواية حملني ذلك - بعد سؤال جماعة لي من أهل العلم - على التصنيف في هذا العلم الشريف، قاصدًا به إيضاح راجحه من مرجوحه، وبيان سقيمه من صحيحه، موضحًا لما يصلح منه للرد إليه، وما لا يصلح للتعويل عليه. ليكون العالم على بصيرة في علمه يتضح له بها الصواب، ولا بيني وبينه وبين درك الحق الحقيق بالقبول حجاب؛ لأن تحرير ما هو الحق هو غاية الطلبات، ونهاية الرغبات، لا سيما في مثل هذا الفن الذي رجع كثير من المجتهدين بالرجوع إليه إلى التقليد من حيث لا يشعرون، ووقع غالب المتمسكين بالأدلة بسببه في الرأي البحت وهم لا يعلمون). أ. هـ (انظر إرشاد الفحول ص2، 3 ط. السعادة).
وبهذا كله يتضح أن للاجتهاد في أصول الفقه مجالاً رحبًا، هو مجال التمحيص والتحرير والترجيح فيما تنازع فيه الأصوليون من قضايا جمة، ومحاولة الشوكاني (تحقيق الحق) منها لا يعني أنه لم يدع لمن بعده شيئًا، فالباب لا يزال مفتوحًا لمن وهبه الله المؤهلات لولوجه، ولكل مجتهد نصيب، وقد يتهيأ للمفضول ما لا يتهيأ للفاضل.
الأمر الذي يجب تأكيده بقوة هو أن ما ثبت بدليل قطعي لا يجوز أن ندع للمتلاعبين أن يجترئوا على اقتحام حماه. فإن هذه (القطعيات) هي عماد الوحدة الاعتقادية والفكرية والعملية للأمة. وهي لها بمثابة الرواسي للأرض، تمنعها أن تميد وتضطرب. ولا يجوز لنا التساهل مع قوم من الأدعياء، يريدون أن يحولوا القطعيات إلى محتملات، والمحكمات إلى متشابهات، ويجعلوا الدين كله عجينة لينة في أيديهم يشكلونها كيف شاءت لهم أهواؤهم، ووسوست إليهم شياطينهم.
ولقد بلغ التلاعب بهؤلاء إلى حد أنهم اجترؤا على الأحكام الثابتة بصريح القرآن، مثل توريث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، فهم يريدون أن (يجتهدوا) في التسوية بين الذكر والأنثي! بدعوى أن التفاوت كان في زمن لم تكن المرأة فيه تعمل مثل الرجل، وجهل هؤلاء أو تجاهلوا أن المرأة.وإن عملت وخرجت من مملكتها وزاحمت الرجال بالمناكب - تظل في كفالة الرجل ونفقته: ابنة وأختًا وزوجة وأمًا، غنية كانت أو فقيرة، وأن أعباءها المالية دون أعبائه، فهو يتزوج فيدفع مهرًا، ويتحمل نفقة، وهي تتزوج فتأخذ مهرًا، وينفق عليها، ولو كانت من ذوات الثراء.
وبلغ التلاعب ببعضهم أن قالوا: إن الخنازير التي حرمها القرآن وجعل لحمها رجسًا، كانت خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فتربى تحت إشراف لم تنله الخنازير القديمة.
وهكذا يريد هؤلاء لشرع الله أن يتبع أهواء الناس، لا أن تخضع أهواء الناس لشرع الله.
(ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن) (سورة المؤمنون: 71).
إننا نقول لهؤلاء الذي عبدوا أنفسهم لفكرة التطور المطلق ويطالبون الإسلام أن يتطور! نقول لهم: لماذا تطالبون الإسلام أن يتطور، ولا تطالبون التطور أن يسلم؟ ! والإسلام إنما شرعه الله ليَحكم لا ليُحكم، وليقود لا ليُقاد، فكيف تجعلون الحاكم محكومًا، والمتبوع تابعًا؟!
(أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون) (سورة المائدة: 50).
مواقع النشر (المفضلة)