السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إن الدّور التي تَمُرُّ بالإنسان ، ويمرُّ بها ثلاث لا رابعة لها :
دار الدنيا ، ودار البرزخ ، والدار الآخِرة .
ولكل دارٍ خصائصها وأحكامُها التي تُميّزها عن غيرها .
فالدنيا ظلٌّ زائل ، وهي دار الفناء ، ومتاع الغرور .
كما في قوله تبارك وتعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)
وقال صلى الله عليه وسلم : الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة . رواه مسلم .
وما هذه الدنيا وإن جلّ قدرها سوى مُهلة نأتي لها ونروحُ
والدار الآخرة هي الحياة الحقيقية . قال تبارك وتعالى : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
وبين الدّارين دارُ البرزخ ، وهي مرحلة متوسطة بين الدنيا والآخرة ، وهي تأخذ من أحكام هذه ومن أحكام هذه .
ذلك لأن الإنسان مركّب من الروح والجسد ، فأحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها ، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها ، وفي الآخرة يكون النعيم أو العذاب على الأرواح والأبدان جميعاً .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعّمة أو معذبة ، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ، ويحصل له معها النعيم أو العذاب ، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين . اهـ .
وأما ثبوت عذاب القبر في القرآن الكريم : فقال سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
قال قتادة في قوله تعالى : (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) قال : صباحَ ومساءَ الدنيا ، يُقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخا ونقمة وصغاراً لهم .
وقال ابن زيد : هم فيها اليوم يُغدى بهم ويُراح إلى أن تقوم الساعة .
قال ابن كثير : وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور . اهـ وقال جلّ ذِكرُه : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
قال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو عذاب القبر .
ولا إشكال في ذلك فهو محتَمَل ، كما أنه لا إشكال في ختم الآية بقوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
يعني : لِمَا يَعْلَمون من عذاب القبر ، وتُدركه سائر المخلوقات على ما سيأتي بيانه .
وقال عز وجل : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)
قال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية : وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا ، وأن يراد به عذابهم في البرزخ وهو أظهر لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا أو المراد أعم من ذلك . اهـ .
وفي قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)
قال أبو سعيد : يُضيّق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه فيه .
وقال الإمام البخاري : باب ما جاء في عذاب القبر ، وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)
قال : هو الهوان ، وقوله جل ذكره : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)
ثم ساق بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عذاب القبر حقّ .
وقال الحسن البصري رحمه الله في تفسير هذه الآية – أعني قولَه تعالى : سنعذبهم مرتين – قال : عذاب الدنيا ، وعذاب القبر .
وقال سبحانه : (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
قال مجاهد : ما بين الموت إلى البعث .
قال ابن القيم في قوله تعالى : (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)
هذا في دورهم الثلاث ليس مختصا بالدار الآخرة ، وإن كان تمامه وكماله وظهوره إنما هو في الدار الآخرة ، وفي البرزخ دون ذلك كما قال تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ) .
فالأبرار في نعيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة ، والفجار والكفار في جحيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة .
فهذه الآيات وغيرها مما استدلّ به أهل السنة على ثبوت عذاب القبر