مشاركة: لثقافة المسلم : أصول الفقه - سؤال وجواب أهل العلم
ما عقوبة من يتجرء على منصب الفتوى بغير علم ؟
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي
كان السلف ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها، ويعتبرون ذلك ثلمة في الإسلام، ومنكرا عظيما يجب أن يمنع.
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أفتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه".
وذلك لأن المستفتي معذور إذا كان من أفتاه لبس لبوس أهل العلم، وحشر نفسه في زمرتهم، وغر الناس بمظهره وسمته.
غير أن من أقر هذا المفتي ـ بعد تبين جهله وخلطه ـ من ولاة الأمور يشاركه في الإثم أيضا، ولا سيما إذا كان من أهل الحظوة لديهم، والقربى إليهم، فهو ينفعهم، وهم ينفعونه، على طريقة "احملني أحملك"!
ومن ثم قرر العلماء: أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو عاص أيضا.
ونقل ابن القيم عن أبي الفرج بن الجوزي رحمه الله قال: ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية.
قال: وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم.
وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على هؤلاء، ولما قال له بعضهم يوما: أجعلت محتسبا على الفتوى؟! قال له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟
والإمام أبو حنيفة رغم ذهابه إلى عدم الحجر على السفيه احتراما لآدميته، يقول بوجوب الحجر على المفتي الجاهل المتلاعب بأحكام الشرع، لما وراء تلاعبه من ضرر عام على الجماعة المسلمة، لا يقاوم حقه الفردي في حرية التصرف.
وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ـ شيخ الإمام مالك ـ يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق!
قال بعض العلماء فيما نقله ابن القيم عنه: فكيف لو رأى ربيعة زماننا؟ وإقدام من لا علم له على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب؟!
ونقل أبو عبدالله بن بطة ما رواه الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود: والله إن الذي يفتي الناس في كل مسألة لمجنون، وقول الحكم للأعمش: "لو سمعت منك هذا الحديث قبل اليوم ما كنت أفتي في كثير مما كنت أفتي فيه".
ثم قال أبو عبدالله: فهذا عبدالله بن مسعود يحلف بالله، إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه مجنون. ولو حلف حالف لبر، إن أكثر المفتين في زماننا هذا مجانين! لأنك لا تكاد تلقى مسئولا عن مسألة، متلعثما في جوابها ولا متوقفا عنها، ولا خائفا لله، ولا مراقبا له أن يقول له: من أين قلت؟ بل يخاف ويجزع أن يقال: سئل فلان عن مسألة فلم يكن عنده جواب، يفتي فيما عيى عنه أهل الفتوى، ويعالج ما عجز عن علاجه الأطباء".
وقال غير واحد من السلف في بعض أهل زمانه. أن أحدهم يفتي في المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر!
وأقول: فكيف لو رأى ربيعة وابن بطة وابن القيم ومن قبلهم ومن بعدهم من علماء زماننا نحن؟ وكيف أصبح يفتي في قضايا الدين الكبرى من لا علم له بالأصول ولا بالفروع، ولم يتصل بالقرآن والسنة اتصال الدارس المتعمق، بل اتصال الخاطف المتعجل؟
بل كيف أصبح بعض الشباب يفتون في أمور خطيرة بمنتهى السهولة والسذاجة، مثل قولهم بتكفير الأفراد والمجتمعات، وتحريمهم على أتباعهم حضور الجمع والجماعات، أو قول آخرين بإسقاط الجهاد حتى تقوم الدولة القرآنية، والخلافة الإسلامية.
وكثير من هؤلاء ليسوا من "أهل الذكر" في علوم الشريعة، ولا كلف نفسه أن يجلس إلى أهل الذكر ويأخذ عنهم، ويتخرج على أيديهم، إنما كون ثقافته من قراءات سريعة في كتب المعاصرين، أما المصادر الأصلية فبينه وبين قراءتها مائة حجاب وحجاب، ولو قرأها ما فهمها، لأنه لا يملك المفاتيح المعينة على فهمها وهضمها. فكل علم له لغة ومصطلحات لا يفهمها إلا أهله العارفون به المتخصصون فيه، فكما لا يستطيع المهندس أو الطبيب أن يقرأ كتب القانون وحده دون مرشد ومعلم، ولا يستطيع القانوني أن يقرأ كتب الهندسة وحده، كذلك لا يستطيع أحد هؤلاء أن يدرس كتب الشريعة وحده دون موجه يأخذ بيده0
والله أعلم
مشاركة: لثقافة المسلم : أصول الفقه - سؤال وجواب أهل العلم
ما الصفات والثقافات التي يجب على من يتصدى للفتوى أن يتعرض لها ؟
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
إن المفتي أو الفقيه الذي يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم بل يوقع عن الله جل شأنه، جدير بأن يكون على قدر كبير من العلم بالإسلام، والإحاطة بأدلة الأحكام، والدراية بعلوم العربية، مع البصيرة والمعرفة بالحياة وبالناس أيضا بالإضافة إلى ملكة الفقه والاستنباط.
لا يجوز أن يفتي الناس في دينهم من ليس له صلة وثيقة وخبرة عميقة بمصدريه الأساسيين: الكتاب والسنة.
ولا يجوز أن يفتي الناس من لم تكن له ملكة في فهم لغة العرب وتذوقها، ومعرفة علومها وآدابها حتى يقدر على فهم القرآن والحديث.
ولا يجوز أن يفتي الناس من لم يتمرس بأقوال الفقهاء، ليعرف منها مدارك الأحكام، وطرائق الاستنباط، ويعرف منها كذلك مواضع الإجماع ومواقع الخلاف.
ولا يجوز أن يفتي الناس من لم يتمرس بعلم أحوال الفقه، ومعرفة القياس والعلة، ومتى يستعمل القياس، ومتى لا يجوز. كما لا يجوز أن يفتي من لم يعايش الفقهاء في كتبهم وأقوالهم، ويطلع على اختلافهم، وتعدد مداركهم، وتنوع مشاربهم، ولهذا قالوا: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه!
ولا يجوز أن يفتي الناس من يعيش في صومعة حسية أو معنوية، لا يعي واقع الناس، ولا يحس بمشكلاتهم.
يروي الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه "الفقيه والمتفقه" عن الإمام الشافعي قوله:
"لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلا عارفا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيم أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر، وبما يحتاج إليه العلم والقرآن، ويستعمل ـ مع هذا ـ الإنصات وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأفكار، وتكون له قريحة (أي ملكة وموهبة) بعد هذا فإن كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي".
وسئل الإمام أحمد: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث، وليس بعالم بالفتيا؟ قال: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا، أن يكون عارفا بالسنن، عالما بوجوه الكتاب، عالما بالأسانيد الصحيحة، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها.
ولم يكتف الإمام أحمد بمعرفة المفتي للسنن، فاشترط له المعرفة بأقوال الفقهاء والمجتهدين، قال: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي، وقال أيضا: أحب أن يتعلم الرجل كل ما تكلم فيه الناس.
وسأله بعضهم: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها؟ قال: لا قال: فمائتي ألف؟ قال: لا، قال: فثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قال: فأربعمائة ألف؟ قال بيده هكذا وحركها.
وقد خفف علماء الأصول بعد ذلك ـ نزولا على الأمر الواقع في أزمانهم وقالوا: المهم أن يعرف من الأحاديث ما يتعلق بالأحكام، ولا يلزم حفظها عن ظهر قلبه، يكفي أن يكون ممارسا لها، عارفا بمظانها متونا وشروحا، خبيرا بنقدها، تعديلا وتجريحا، قادرا على مراجعتها عند الحاجة إلى الفتوى، ومهما قدر على الحفظ فهو أحسن وأكمل.
على أن الحفظ وحده لا يجعل الحافظ فقيها، ما لم تكن لديه المقدرة على تمييز المقبول والمردود، والصحيح والمعلول، وكذلك على الاستنباط والترجيح، أو التوفيق بين النصوص بعضها وبعض، وبينها وبين المقاصد الشرعية والقواعد الكلية.
قيل للإمام عبدالله بن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالما بالأثر، بصيرا بالرأي.
وبهذا لا يكفي الأثر دون الرأي، ولا الرأي دون الأثر. ولابد للمفتي من ثقافة عامة، تصله بالحياة والكون، وتطلعه على سير التاريخ، وسنن الله في الاجتماع الإنساني، حتى لا يعيش في الحياة هو بعيد عنها، جاهل بأوضاعها.
يقول الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" "اعلم أن العلوم كلها أبازير للفقه، وليس دون الفقه علم إلا وصاحبه يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفقيه، لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم، فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه، ولن يدرك ذلك إلا بملاقاة الرجال، والاجتماع مع أهل النحل والمقالات المختلفة، ومساءلتهم وكثرة المذاكرة لهم، وجمع الكتب ومدارستها، ودوام مطالعتها".
ولا يريد الخطيب من المفتي أو الفقيه أن يجمع الكتب في خزائنه من هنا وهناك دون أن يعيها، وتفهم ما فيها، فهذا كمثل الحمار يحمل أسفارا.
ونقل عن بعض الحكماء أنه قيل له: إن فلانا جمع كتبا كثيرة، فقال: هل فهمه على قدر كتبه؟ قيل: لا. قال: فما صنع شيئا! ما تصنع البهيمة بالعلم؟!
وقال رجل لرجل كتب، ولا يعلم شيئا مما كتب: مالك من كتبك إلا فضل تعبك وطول أرقك، وتسويد ورقك!
إن من أسوأ الأشياء خطرا على المفتي أن يعيش في الكتب، وينفصل عن الواقع، ولهذا أحسن الخطيب رضي الله عنه حين طلب إلى المفتي أن يعرف الجد والهزل، والنفع والضر في أمور الحياة.
ومما قاله الإمام أحمد:
لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية، لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة.
والثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته.
والرابعة: الكفاية (أي من العيش) وإلا مضغه الناس.
والخامسة: معرفة الناس.
إن المفتي البصير يجب أن يكون واعيا للواقع، غير غافل عنه، حتى يربط فتواه بحياة الناس، فهو لا يكتب نظريات، ولا يلقي فتواه في فراغ، ومراعاة الواقع تجعل المفتي يراعي أمورا معينة، ويضع قيودا خاصة، وينبه على اعتبارات مهمة.
وأستطيع أن أذكر هنا مثلا لفتوى صدرت من الإمام الشهيد حسن البنا حول (تحديد النسل) ذكر فيها النصوص الشرعية التي رغبت في كثرة النسل، والنصوص التي رخصت في العزل، ثم قال:
"إذا تقرر هذا، ولاحظنا معه أن الإسلام لم يغفل ناحية القوة في الأبناء، والصحة في الإنتاج، بل أوصى بذلك، ونبه إليه، فعن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرا، فإن الغيل يدرك الفارس قيد عثرة عن فرسه". أخرجه أبو داود.
والغيل أن يقرب الرجل امرأته وهي ترضع، فتضعف لذلك قوى الرضيع، فإذا بلغ مبلغ الرجال ظهر فيه أثر هذا الضعف؛ نقول إذا تقررهذا علمنا أن الإسلام مع وصيته بالإكثار من النسل وإرشاده إلى أسباب القوة فيه، قد يجعل رخصة تستخدم إذا توافرت الأسباب والدواعي التي تدعو إليها.
وعلينا إذا أردنا أن نستخدم هذه الرخصة أن نسأل أنفسنا الأسئلة الآتية:
1. أليست هناك أسباب تدعو إلى الإكثار من النسل لا إلى تحديده؟
2. هل ثبت بأدلة قوية، وقرائن صادقة أن هناك من الأسباب ما يدعو إلى التحديد، وهل تأكدنا أن كثرة النسل هي السبب في الضائقة الاجتماعية؟
3. هل يمكن استخدام علاج اجتماعي آخر؟
4ـ للتحديد أضرار خطيرة؟ هل وثقنا من أنه سوف لا تنجم عن هذا
5. هل اتخذت الاحتياطات الكافية لمنع هذه الأضرار؟
6. ما الوسائل التي ستتخذ، وهل يبيحها الإسلام؟
7. هل وثقنا من أن هذه الرخصة ستستخدم بالقدر الضروري فقط، وأنه سيستخدمها الذين يراد منهم استخدامها، وأن العود إلى القاعدة الكلية ـ وهي ترك التحديد ـ سيكون ممكنا إذا ما دعت الحاجة إليه؟
8. وأخيرا، هل الأفضل من ذلك أن يعالج بصورة عامة أو بصورة فردية خاصة؟
9. أليس من الجائز أن تسفر هذه التجربة عن عجز عن معالجة الأضرار المزعومة، كوفيات الأطفال مثلا فتظل هذه الدواعي كما هي، ويضاف إليها الأضرار التي ستنجم عن التحديد؟
10. وملاحظة أخرى قد تكون بعيدة عن تفكيرنا المحدود بالواقع والبيئة الخاصة وإن كانت صحيحة في ذاتها: هي أن الإسلام لا يتقيد بهذا التقسيم السياسي في الوطن الإسلامي العام، فهو: عقيدة ووطن وجنسية، وأرض المسلمين في نظره وطن واحد، فالزيادة في جزء منه قد تسد نقصا في جزء آخر.
وعلى ضوء البيانات التي سمعتها في هذه الدار الكريمة من حضرات الباحثين الفضلاء أستطيع أن أستخلص النتيجة التالية:
إن نجاح التشريع غير مضمون في القرى بتاتا فإن أولاد الفلاح هم رأس ماله وثروته، والفلاحون في أشد الحاجة إلى الإكثار من الذرية.
وإن المشاهد أن الطبقة التي تستخدم التحديد هي الطبقة المتعلمة التي ينتظر منها الإكثار، وذلك ضار بالأمة، فإن القادرين على التربية هم الذين يفرون من كثرة الأبناء، ولهذا نحن في الواقع نخشى إن استمر هذا الحال أن نجد أنفسنا في المستقبل أمام مشكلة هي كيف نكثر من النسل لخدمة الوطن المحتاج إلى كثرة الأبناء.
ومعنى هذا أن استخدام رخصة التحديد التي أباحها الإسلام لظروفها لا تجوز بصورة عامة ولا يصح أن تحمل عليها الأمة بل تستخدم بصورة خاصة فردية بحتة مع الذين تتوفر عندهم دواعيها فقط.
إن هناك من ظروف الأمة الخاصة في نهضتها الجديدة ما يدعو إلى تكثير النسل، فأمامنا الجيش، وأمامنا الأرض البور وغير ذلك.
والآن أسباب الأضرار المشكو منها اقتصاديا، وصحيا، واجتماعيا لا ترجع إلى كثرة النسل بل إلى ارتفاع مستوى المعيشة من جهة وجهل الأمهات من جهة أخرى، والمزاحمة من جهة ثالثة، وأسباب أخرى نعجز عن حصرها، وسردها.
وذلك ما استبان لي وفوق كل ذي علم عليم0
وهكذا ينبغي أن تكون الفتوى: يزدوج فيها فقه الدين وفقه الحياة.
وبدون معرفة الناس ومعايشتهم في واقع حياتهم ومشكلات عيشهم، يقع المفتي في متاهات، أو يهوم في خيالات، ويظل في واد والناس في واد، فهو لا يعرف إلا ما يجب أن يكون، دون ما هو كائن، مع أن الواجب شيء، والواقع شيء آخر.
يقول ابن القيم: الفقيه من يطبق بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم.
ذكر هذا في معرض جواز استفتاء مستور الحال، بل الفاسق إذا لم يكن معلنا بفسقه، داعيا إلى بدعته. قال: وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الأرض، فلو منعت إمامة الفساق وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم وولاياتهم، لعطلت الأحكام، وفسد نظام الخلق، وبطلت أكثر الحقوق، ومع هذا فالواجب اعتبار الأصلح فالأصلح.
والله أعلم
مشاركة: لثقافة المسلم : أصول الفقه - سؤال وجواب أهل العلم
نرجو من حضراتكم أن تبينوا لنا أخلاق من يتعرض لمنصب الإفتاء حيث إن هذا المنصب من أجل وأعظم المناصب ؟
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في هذه المسألة
لابد مع العلم من عمل، ولابد مع العمل من خشية، والعلم الذي لا يثمر خشية الله وتقواه لا قيمة له في ميزان الحق، يقول الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
إن آفة الحياة ليست من فساد العقول، بقدر ما هي من فساد الضمائر، وإن أزمة الناس ليست أزمة معرفة بقدر ما هي أزمة أخلاق.
ولم تفسد الأديان السابقة على الإسلام بسبب الجهل بحقائقها، بقدر ما فسدت من علماء السوء، المتاجرين بها، المحرفين لها.
ولا عجب أن حمل القرآن بقوة على الذين يخونون علمهم، يشترون به متاعا زائلا، ويلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.
نقرأ قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون).
ونقرأ كذلك قوله سبحانه: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمنا قليلا، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار).
ونقرأ أسوأ مثلين ذكرهما القرآن لمن علم ولم يعمل بمقتضى ما علم: كالذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وجعل الله مثله (كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث) وكذلك بنو إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، أي لم يقوموا بحقها، ولم يعملوا بهديها، جعل القرآن مثلهم (كمثل الحمار يحمل أسفارا).
ـ من هنا أكد علماء الإسلام على الجانب الأخلاقي للمفتي، ولم يكتفوا منه بسعة العلم والتبحر فيه، حتى يزين علمه بالتقوى ومكارم الأخلاق.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
ألا أخبركم بالفقيه كل الفقيه؟ من لم يوئس الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ألا لا خير في علم لا فقه فيه، ولا خير في فقه لا ورع فيه، ولا قراءة ولا تدبر فيها.
ويقول الحسن البصري: هل تدري ما الفقيه؟ الفقيه الورع الزاهد، الذي لا يسخر ممن أسفل منه، ولا يهمز من فوقه، ولا يأخذ على علم علمه الله حطاما.
ويقول الإمام مالك: لا يكون العالم عالما، حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس ولا يفتيهم به، مما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم.
فأين هذا ممن يفتي الناس بمنع شيء وهو يمارسه ويعمله، أو يفتيهم بوجوب فعل شيء، وهو تاركه ومضيعه؟ والله تعالى خاطب بني إسرائيل فقال: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون).
ـ ومن أمانة المفتي وتقواه، أن يحيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى ولا يجد في ذلك حرجا في صدره.
سئلت عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين، فقالت للسائل: سل عليا، فإنه أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ ومن ذلك، أن يسأل هو إخوانه من أهل العلم ويشاورهم، ليزداد استيثاقا واطمئنانا إلى الأمر، كما كان يفعل عمر، حيث يجمع علماء الصحابة ويشاورهم، بل كان يطلب رأي صغار السن فيهم مثل عبدالله بن عباس، الذي قال له مرة: تكلم ولا يمنعك حداثة سنك.
ـ ومن هذا الجانب الأخلاقي: أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له، فالرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصر عليه عنادا وكبرا، أو خجلا من الناس والله لا يستحي من الحق.
وقد كان بعض السلف يفتي سائله، فإذا تبين له خطؤه بأمر ينادي في الناس بأن فلانا الفقيه أفتى اليوم خطأ، ولا يبالي بما يقول الناس.
ـ ومن أخلاقيات المفتي: أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه، ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا، وأصحاب السلطان، وحسبه أن يرضي الله تبارك وتعالى. وكل الذي فوق التراب تراب.
وقد أفتى الأئمة المتبوعون بأحكام رأوها حقا، ورآها أصحاب السلطان ضد سلطانهم، فأصروا عليها مجاهرين، وعرضوا أنفسهم لسخط المتسلطين، فضربوا وأوذوا، ولكنهم صبروا على ما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا.
ولقد امتحن شيخ الإسلام ابن تيمية من أجل فتاويه التي خالف بها المألوف لدى المقلدين الجامدين، فكادوا له لدى أولي السلطة، حتى دخل السجن أكثر من مرة، وظل في محنته الأخيرة إلى أن وافاه الأجل رضي الله عنه.
ومع هذا لم يتزحزح عن موقفه، ولم يتراجع عما رأى أنه الحق، ولم يبال بسجن ولا نفي ولا تهديد بقتل، ومن كلامه في ذلك: سجني خلوة، ونفيي سياحة (هجرة) وقتلي شهادة.
ـ وقبل ذلك كله يجدر بمن عرض نفسه للفتوى أن يشعر بالافتقار إلى الله تعالى، وصدق التوجه إليه، وأن يقف على بابه متضرعا داعيا أن يوفقه للصواب ويجنبه زلل الفكر واللسان والقلم، ويحفظه من اتباع الهوى، وخليق به أن يقول ما كان يقول ابن تيمية: اللهم يا معلم إبراهيم علمني، وما كان يقوله بعض السلف، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أو يدعو بدعاء موسى عليه السلام: (رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقه قولي).
وبما جاء في الصحيح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
والله أعلم
مشاركة: لثقافة المسلم : أصول الفقه - سؤال وجواب أهل العلم
ما الأخلاق التي يجب على المستفتين أن يتخلقوا بها حيث إن كثيرا من المفتين يتحايلون كي يحصلوا على الفتوى التي يريدونها بصرف النظر عن قوة الدليل أو ضعفه فهل هذا يعفيهم من المسؤلية أمام الله تعالى؟
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي اسم المفتي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
هذا التحايل أو البحث عن المفتي الذي يتساهل فيحلل الحرام أو إخفاء بعض الحقائق عن المفتى حتى تخرج الفتوى حسب هوى المستفتي هذا كله لايجوز بحال ويتحمل المستفتي الوزر كاملا لأن المستفتي الذي يريد أن يعرف الحق لابد وأن يتحلى بجملة آداب يذكر لنا فضيلة الشيخ الأستاذ القرضاوي بعضها فيقول :
إذا كان على المفتي واجبات يجب أن يقوم بها، وآداب يحسن أن يراعيها، فإن على المستفتي مثل ذلك أيضا ، ومن هذه الواجبات
أولا :السؤال عما ينفع
وأول ما يجب عليه أن يحسن السؤال، فحسن السؤال نصف العلم، كما هو مأثور، وتطبيقا لهذا المعنى يجب أن يكون سؤاله عما ينفع، أي يسأل في واقعة يعانيها هو أو غيره ويريد الحكم فيها، ولا يسأل فيما هو مفترض بعيد الوقوع. فهذا من: "أغاليط المسائل" التي جاء الحديث بالنهي عنها (رواه أبو داود).
وقد سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة لا ثمرة لها، فغضب لذلك غضبا شديدا، كسؤال عبدالله بن حذافة له: من أبي؟ لأن مثل هذا السؤال لا نفع له قط، لأنه إن كان له أب غير الذي ينسب إليه بين الناس، لم يكسب من ذلك إلا أن يفضح أمه، ويزري نفسه.
وقد عاقب عمر رجلا جعل كل همه أن يسأل عن المتشابهات، التي لا يتعلق بها حكم عملي، وقد يثير الجري وراءها مراء وجدلا لا طائل تحته، إلا إضاعة الأوقات، وبلبلة الأفكار، وإيغار الصدور.
ولما سئل الإمام مالك عن معنى "الاستواء" في قوله تعالى (استوى على العرش) غضب وقال للسائل: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة!
وقد روي في التفسير أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم ينقص حتى يصير كما كان، فأنزل الله قوله: (يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج) فعدل عن الجواب عن عين سؤالهم إلى الجواب عن منافع الأهلة في الدين والحياة، فهذا ما يقدرون على فهمه في ذلك الوقت، وهو كذلك أجدى عليهم وأنفع لهم.
وسائر الأسئلة التي سجلها القرآن للمسلمين في عصر النبوة كانت أسئلة واقعية تتصل بصميم حياتهم، لا بأخيلة وافتراضات وأغلوطات يدفع إليها حب التسلية وتزجية الفراغ، أو التعالم الأجوف، أو التعنت وتعجيز الغير، أو نحو ذلك من البواعث الرخيصة التي لا وزن لها في دين ولا أخلاق.
ومن أسئلتهم التي خلدها القرآن (يسألونك عن الخمر والميسر) (يسألونك ماذا ينفقون) (يسألونك عن اليتامى) (يسألونك عن المحيض) (يسألونك ماذا أحل لهم) الخ.
وقد ظل المسلمون في عصور ازدهارهم يسألون عما يفيدهم في دينهم ومعاشهم ومعادهم، وإذا جمح بأحدهم جواد خياله رده علماؤهم إلى جادة الصواب، وأفهموه أن الإسلام يريد المسلم إيجابيا منتجا، يعرض عن اللغو، ويشغل نفسه ووقته بالنافع من القول والعمل والفكر.
ولما تخلف المسلمون ـ حضاريا وفكريا ـ أكثروا من الأسئلة التي لا يصلح بها دين، ولا ترتقي بها دنيا، ولا يزكو عليها فرد، ولا تنهض بها جماعة، وشغل عوام المسلمين بمسائل وتفصيلات لم تخطر ببال أحد من سلف الأمة.
وكان للمتأخرين من علمائهم المقلدين دور كبير في إذكاء هذه الروح، ودعم هذا الاتجاه، لأنهم ضيعوا اللباب، وشغلوا بالقشور، وشغلوا الناس معهم بها، حتى أن تدريس الوضوء والطهارة ليستغرق دروس شهر كامل كشهر رمضان.
ثانيا : استفتاء القلب
وعلى المستفتي أن يتقي الله ويراقبه في استفتائه إذا استفتى، ولا يجعل الفتوى ذريعة إلى أمر يعلم من قرارة نفسه أنه غير جائز شرعا، وإنما لبس على المفتي، وغره بزخرف القول، أو بإخفاء عنصر له تأثير في تكييف القضية المسئول عنها، فيجيب المفتي بما يظهر له، غير متفطن إلى خبايا الموضوع وخلفياته. ولو عرضت عليه القضية بوضوح، لا تلبيس فيه ولا تمويه، وظهر له من خباياها ما أخفى عنه، لغير فتواه.
فلا يخدعن المستفتي نفسه، ويحلل لها ما يوقن ـ بينه وبين نفسه ـ أنه حرام، لمجرد أنه حصل في يديه فتوى من هذا الشيخ أو ذاك، هي ـ في واقع الأمر ـ في غير موضوعه، أو في غير حالته.
والمفتي هنا كالقاضي الذي يحكم بحسب الظاهر، تاركا إلى الله أمر الخفايا والسرائر، وقضاؤه بحسب الظاهر، لا يجعل الحرام في الباطن حلالا، قال تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون).
وفي الحديث الصحيح: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار".
وإذا كان هذا في قضاء الرسول المصطفى بحسب ما يظهر له، فكيف بقضاء غيره؟!
ولا خلاف أن المفتي في هذا الأمر كالقاضي ولا فرق.
مشاركة: لثقافة المسلم : أصول الفقه - سؤال وجواب أهل العلم
وكل فتوى تحوك في صدر المستفتي، ولا تطمئن إليها نفسه، ولا يستريح إليها ضميره، لسبب من الأسباب المعتبرة، يجب أن يتوقف عن العمل بها، حتى تتضح له الرؤية، ويصل إلى مرحلة الاطمئنان النفسي، بأن يسأل أكثر من مفت، أو يعاود المفتي الأول مرة بعد أخرى، حتى يزول التردد بالتثبت، وينقطع الشك باليقين، ما وجد إلى ذلك سبيل. فالقلب ـ أو الضمير بتعبير عصرنا ـ هو المفتي الأول في هذه الأحوال، كما في الحديث المعروف.
يقول العلامة ابن القيم: "لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي، إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك".
فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي بذلك.
ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله فيه، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها.
فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، يسأل ثانيا وثالثا حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.
ثالثا :تبين الفتوى بكل قيودها
وعلى المستفتي بعد ذلك أن يتفحص فتوى مفتيه تمام التفحص، ويتبين ما فيها من قيود وشروط تمام التبين، ثم يطبق ذلك على نفسه وحاله. فلا يخطف الجواب خطفا، قبل أن يتأمل أوائله وأواخره، وما يحمل في طيه من قيود أو أوصاف قد لا تنطبق على قضيته عند التطبيق، وقد يجيب المفتي بكلام عام، ثم ينبه في أثناء فتواه أو على آخرها على قيد أو شرط، أو يستدرك كلامه الأول، فيقيد مطلقه، أو يخصص عمومه، أو يفصل مجمله.
فلابد للمستفتي أن يراعي هذا كله، ولا يأخذ ببعض الجواب دون بعض، إذا أراد أن يتخلص من التبعة، ويلقى الله تعالى سليما من الإثم.
رابعا: طلب العلم
ثم إن على المسلم أن يتفقه في دينه، ويتعلم من أحكامه ما ينفعه، وما يسير به في طريق سوي، حتى لا تختلط عليه الأمور، ويلتبس عليه الحق بالباطل والحلال بالحرام.
ولهذا جاء في الحديث: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" والمراد: كل إنسان مسلم، ذكرا كان أو أنثى، فالمسلمة كالمسلم في طلب العلم بالإجماع، وإن لم يرد في الحديث بلفظ "مسلمة".
إذا لم يتعلم المسلم، تكون النتيجة أنه يسير في طريق، ولكن غير الطريق السليم، يبتدع في الدين ما ليس منه، ويعبد الله على غير ما شرع، والله تعالى لا يريد من عباده أن يبتدعوا، لأن الله تعالى هو الشارع، وليس لهم أن يشرعوا في دينهم ما لم يأذن به الله. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة".
إذا لم يتعلم الإنسان دينه، فقد يحلل الحرام، ويحرم الحلال. يحرم على نفسه ما لم يحرم الله، ويبيح لنفسه أو لغيره ما حرمه الله. قد يرد الصحيح ويقبل الباطل، ويصوب الخطأ، ويخطئ الصواب، وقد رأيت هذا كثيرا وعانيته، فمن الناس من يرد حديثا ورد في البخاري بحديث لا أصل له، بعضهم رد الحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وهو ثابت في صحيح البخاري، من أجل حديث "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" يعني عائشة، وهذا الحديث باطل كما حقق العلماء.
وهذا إنما جاء من الجهل بالدين، فلابد أن يتعلم الإنسان دينه، فإذا تعلم دينه استطاع أن يسير على هدى، ويمضي على بينة من ربه، ولكن، من أين يعرف المسلم أحكام دينه وتعاليمه؟
والله أعلم
مشاركة: لثقافة المسلم : أصول الفقه - سؤال وجواب أهل العلم
هل هناك منهج عصري يمكن اتباعة لمن يريد أن يتصدى للفتوى في هذا العصر ؟
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
نقول للسائل الكريم
لقد تكلم فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في هذه المسألة في كتابه الفتوى بين الانضباط والتسيب وإليك ما ذكره في هذه المسألة باختصار وتصرف
يقول فضيلة الشيخ عن منهجه في الإفتاء وأنه يتلخص في :
أولا: التحرر من العصبية المذهبية، والتقليد الأعمى لزيد أو عمرو من المتقدمين أو المتأخرين، فقد قيل لا يقلد إلا عصبي أو غبي، وأنا لا أرضى لنفسي واحدا من الوصفين، هذا هو التوقير الكامل لأئمتنا وفقهائنا، فعدم تقليدهم ليس حطا من شأنهم، بل سيرا على نهجهم، وتنفيذا لوصاياهم بألا نقلدهم، ولا نقلد غيرهم، ونأخذ من حيث أخذوا، كما أن عدم تقليدهم لا يعني الإعراض عن فقههم وتراثهم، بل ينبغي الرجوع إليه والاستفادة منه بمختلف مدارسه، دون تحيز ولا تعصب.
وهذا الموقف لا يتطلب من العالم المسلم المستقل في فهمه أن يكون قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق كالأئمة الأولين، وإن كان هذا غير ممنوع شرعا ولا قدرا.
ولكن حسب العالم المستقل في هذا الموقف أمور:
أ. ألا يلتزم رأيا في قضية بدون دليل قوي، سالم من معارض معتبر، ولا يكون كبعض الناس الذين ينصرون رأيا معينا، لأنه قول فلان، أو مذهب فلان، دون نظر إلى دليل أو برهان، مع أن الله تعالى يقول: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) ولا يسمى العلم علما إذا كان ناشئا من غير دليل.
ولقد قال الإمام علي كرم الله وجهه: "لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله".
ب. أن يكون قادرا على الترجيح بين الأقوال المختلفة، والآراء المتعارضة بالموازنة بين أدلتها، والنظر في مستنداتها من النقل والعقل، ليختار منها ما كان أسعد بنصوص الشرع، وأقرب إلى مقاصده، وأولى بإقامة مصالح الخلق التي نزلت لتحقيقها شريعة الخالق.
وهذا أمر ليس بالعسير على من ملك وسائله من دراسة العربية وعلومها، وفهم المقاصد الكلية للشريعة، بجانب الاطلاع على كتب التفسير والحديث والمقارنة.
ج. أن يكون أهلا للاجتهاد الجزئي: أي الاجتهاد في مسألة معينة من المسائل وإن لم يكن فيها حكم للمتقدمين،
بحيث يستطيع أن يعطيها حكمها بإدخالها تحت عموم نص ثابت، أو بقياسها على مسألة مشابهة منصوص على حكمها، أو بإدراجها تحت الاستحسان أو المصالح المرسلة، أو غير ذلك من الاعتبارات والمآخذ الشرعية.
ثانيا: تغليب روح التيسير والتخفيف على التشديد والتعسير، وذلك لأمرين:
الأول: أن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج عن العباد، وهذا ما نطق به القرآن، وصرحت به السنة في مناسبات عديدة.
ففي ختام آية الطهارة من سورة المائدة، وما ذكر فيها من تشريع التيمم، يقول تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).
وفي ختام آية الصيام من سورة البقرة، وما ذكر فيها من الترخيص للمريض والمسافر بالإفطار، يقول سبحانه: (يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر).
وفي ختام آيات المحرمات في الزواج، وما رخص الله فيه من نكاح الإماء المؤمنات لمن عجز عن زواج الحرائر، يقول جل شأنه: (يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفا) وفي ختام سورة الحج، وما ذكر فيها من أحكام وأوامر، يقول عز وجل (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج)
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".
ويقول: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".
ويقول: "إنما بعثت بحنيفية سمحة".
وينكر على المتطرفين والمغالين في العبادة أو في تحريم الطيبات، ويعلن أن من فعل ذلك فقد رغب عن سنته "ومن رغب عن سنتي فليس مني".
ويوجه أصحاب هذه النزعة إلى التوسط والاعتدال، حتى لا يطغى حق على حق، ولهذا قال بعضهم: "إن لبدنك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه".
والأمر الثاني: طبيعة عصرنا الذي نعيش فيه، وكيف طغت فيه المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكيف كثرت فيه المغويات بالشر، والعوائق عن الخير، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال، ومن بين يديه ومن خلفه، تريد أن تقتلعه من جذوره، وتأخذه إلى حيث لا يعود.
ثالثا: ومن القواعد التي ينبغي على المفتي المعاصر التزامها: أن يخاطب الناس بلغة عصرهم التي يفهمون، متجنبا وعورة المصطلحات الصعبة، وخشونة الألفاظ الغريبة، متوخيا السهولة والدقة.
وقد جاء عن الإمام علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!"
وقال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) ولكل عصر لسان أو لغة تميزه، وتعبر عن وجهته، فلابد لمن يريد التحدث إلى الناس في عصرنا أن يفهم لغتهم ويحدثهم بها.
ولا أعني باللغة مجرد ألفاظ يعبر بها قوم عن أغراضهم، بل ما هو أعمق من ذلك، مما يتصل بخصائص التفكير، وطرائق الفهم والإفهام.
رابعا: الإعراض عما لا ينفع الناس
ومن القواعد التي ينبغي للمفتي المعاصر التزامها: ألا يشغل نفسه ولا جمهوره إلا بما ينفع الناس، ويحتاجون إليه في واقع حياتهم.
أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدل، أو التعالم والتفاصح، أو امتحان المفتي وتعجيزه، أو الخوض فيما لا يحسنونه، أو إثارة الأحقاد والفتن بين الناس، أو نحو ذلك، فكنت أضرب عنها صفحا، ولا ألقي لها بالا، لأنها تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني، وتفرق ولا تجمع.
كان بعض الناس يبعثون إلي بأسئلة تتضمن ألغازا شرعية يريدون حلها من مثل: "نوى ولا صلى، وصلى ولا نوى" و"قوم كذبوا ودخلوا الجنة، وقوم صدقوا ودخلوا النار" وأشباه ذلك، فكان ردي عليها السكون والإعراض لأن الاشتغال بمثل هذه المسائل من عمل الفارغين.
ومثل ذلك الأسئلة التي تتعلق بالأمور الغيبية، مما لم يجئ بتحديده نص معصوم، ومثل ذلك غوامض المسائل الدينية والعقائدية التي لا تحتملها الطاقة العقلية المعتادة لجمهور الناس، ويخشى من الخوض فيها ـ سؤالا وجوابا ـ التشويش على الكثيرين.
فهذا أيضا مما لا أعتني بالإجابة عنه إلا إزالة لشبهة، أو ردا لفرية، أو تنبيها على قاعدة، أو تصحيحا لفهم، أو نحو ذلك.
خامسا: الاعتدال بين المتحللين والمتزمتين
ومن خصائص المنهج الذي سرت عليه: التزام روح التوسط دائما، والاعتدال بين التفريط والإفراط، بين الذين يريدون أن يتحللوا من عرى الأحكام الثابتة بدعوى مسايرة التطور من المتعبدين بكل جديد، وبين الذين يريدون أن يظل كل ما كان على ما كان من الفتاوى والأقاويل والاعتبارات، تقديسا منهم لكل قديم.
سادسا: إعطاء الفتوى حقها من الشرح والإيضاح
إنني لا أرضى أبدا طريقة بعض العلماء قديما وحديثا في جواب السائلين: بأن هذا يجوز وهذا لا يجوز، وهذا حلال وهذا حرام، أو حق وباطل، طلبا للاختصار، وعدولا عن الإطالة، ليفرق بين الفتيا والتصنيف، وإلا لصار المفتي مدرسا.
حتى ذكر ابن حمدان في كتابه "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي" أن بعض الفقهاء قيل له: أيجوز كذا فكتب، لا!
وهذا إن جاز مع بعض الأشخاص، وفي بعض الأحوال، لا يجوز أن يكون قاعدة فيما يذاع على جمهور الناس، أو يكتب في صحيفة أو مجلة أو كتاب، يقرؤه الخاصة والعامة.
والحق أني أعتبر نفسي عند إجابة السائلين مفتيا، ومعلما، ومصلحا، وطبيبا، ومرشدا.
وهذا يقتضي أن أبسط بعض الإجابات وأوسعها شرحا وتحليلا، حتى يتعلم الجاهل، ويتنبه الغافل، ويقتنع المتشكك، ويثبت المتردد، وينهزم المكابر، ويزداد العالم علما، والمؤمن إيمانا.
والله أعلم
مشاركة: لثقافة المسلم : أصول الفقه - سؤال وجواب أهل العلم
كيف يتعامل المسلم المعاصر مع تراث السلف ؟
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
إذا كان تراثنا من الفعل الإنساني، وليس له في ذاته عصمة ولا قداسة، فمن حقنا أن نقف معه وقفة الناقد البصير، الذي يعتبره ثروة عظيمة يجب الاستفادة منها، بالانتقاء والانتخاب من بين كنوزها، ما يقبله العقل، ويرضاه النقل، وتقتضيه المصلحة المشروعة، وأن ندع منها ما ثبت لدينا خطؤه، أو لم يعد صالحا في زماننا، أو لغير ذلك من الأسباب التي يرتضيها عقلنا المهتدي بما أنزل الله من الكتاب والميزان.
وأود أن أركز هنا على جملة مبادئ يجب أن نتعامل بها مع تراثنا العظيم:
الأول: أن ننظر في سنده، لنعرف صحة ثبوته من عدمها، فليس كل ما نسب إلى السلف صحيحا.
الثاني: ثبوت حقنا في نقده، ما دام غير معصوم.
الثالث: وجوب العدل والاعتدال في تقويمه ونقده.
الرابع: ألا يتجاوز النقد إلى الطعن والتجريح.
1ـ ليس كل ما نسب إلى التراث صحيح الثبوت:
وينبغي أن يعلم هنا أن كثيرا مما ينسب إلى السلف غير صحيح النسبة إليهم. فكثيرا ما يروى القول أو الرأي أو الخبر عنهم بغير سند أصلا، أو يروى بإسناد واهٍ أو موضوع مختلق.
ومثل هذا يجب أن يُرفض وفق موازين النقد العلمي، التي وضعها أئمة الإسلام لقبول الأخبار والمرويات.
فلا بد من السند أولا. ولو لا الإسناد لقال من شاء ما شاء!
ولا بد من أن يكون صحيحا، أي من رواية الثقات المعروفين، الذين لا تخدشهم تهمة في عدالتهم أو ضبطهم، مع اتصال السند من مبدئه إلى منتهاه.
وإذا كان من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ما روي معلقا بغير إسناد ومنها ما روي بأسانيد منقطعة أو واهية، بل وموضوعة مكذوبة، رغم تشديده صلى الله عليه وسلم وتحذيره البالغ من الكذب عليه. فلا عجب أن يوجد مثل ذلك في أخبار من دونه من صاحب وتابع ومن بعدهم.
على أن من العلماء من قد يدقق في رواية الأحاديث النبوية المرفوعة، ولكنه يتساهل غاية التساهل في الرواية عن سلف الأمة وعلمائها وصلحائها.
وهذا يوجد كثيرا في كتب الرقائق والتصوف.
ومن ثم يلزم الباحث عن الحق فيما يروى عن السلف رضي الله عنهم أن يستوثق أولا من ثبوت المروي عنهم من ناحية سنده.
ونحب أن نشير إلى أن ثبوت المروي لا يكون بكثرة ذكره في بعض الكتب، كما يفعل أكثر المعاصرين. فالتوثيق عندهم أن ينقلوا النص أو الرواية من أكثر من كتاب، مشيرين إلى الجزء والصفحة والطبعة. ولكن هذا لا يغني ما لم يعرف السند وقيمته، فهذا هو المعيار الوحيد لثبوت الأخبار لدى المحققين من علماء المسلمين.
فإذا ثبت الخبر وصح سنده، كان البحث في دلالته ومعناه.